الخميس، 2 يونيو 2016

(سعار القلوب ) للقاصة مهدية أماني ......(دراسة نقدية ) بقلم الأستاذ صالح هشام

الديوان ملتقى الأدباء ( مسابقة ملك النقد )
=======================
دراسة نقدية : بقلم الأستاذ صالح هشام / المغرب
(سعار القلوب ) للقاصة مهدية أماني/ المغرب
--------------------------------------------
قصة قصيرة
------------
سعار القلوب !
--------------
السوق الأسبوعي في مدينتنا يعقد في أول يوم من أيام الأسبوع، أحمل معي دوما قدرا صغيرا من المال فيَدي تشبه الغربال أبو عيون "كبار"..وأركز على ما أريد اقتناءه فقط، يصادف أن أجد شيئا أثريا يروق لي وأندم على خواء جيبي المتعمّد ، أقصده لما تحتدم حركته وتشتد حرارته ، تستقبلني مكبرات الصوت تنادي على كل شيء ولا شيء ، أكثرهم لغوا بائع الأعشاب الطبية ، أعرف الرجل ولا أحبه كثيرا فهو لا يراعي الحشمة في طريقة ترويجه لمنتوجه.. - قرّب ..قرّب يزعق.. يا ابن البلد الأصيلة..يا ابن السّراغنة الأشاوش..يا سليل شرفاء المنبت والمبهر يا ابن الفقهاء والعلماء..تعال لترى "حياة النفوس" واحدة بعشرين درهما والثانية مني إليك هدية ..العُنَّة تجعل منك قُنينة فهل ترضى؟..وإن لم تزف عريسا إلى زوجك الليلة وتبقى الفحل المفترس..علي سخط الله وغضبه من السماء ينهمِران صبّا صبّا..تلتقط أذني كل مرة جملة الفحل المفترس فأتفّ على الأرض من الامتعاض ..ويردف : من لديه امراة كالعقرب سوادا وانعقافا، من عنده امرأة كإبرة خياط البرادع لا طراوة ولا نعومة ولا أرداف..من لديه امرأة كشاهد قبر فيه انطمر ..لدي هنا المعجون العجيب ..يحيل العظم لحما والعصب شحما..المرأة المَنْقُوفة العجفاء بلوى عافانا الله وعافاكم..خذ وهات ، وسيتحول القرد ذو الحيْد حرمك إلى غزال بهضاب وتلال..يتهافت الذكور على اللفافات يتلقفونها، وتنتابني رغبة عارمة في صفع الصفيق على قفاه..أصم أذني عن تفاهاته وأتغاضى عن إشكالية الرجل الشرقي السرمدية وأحاول استعادة متعة التجوال في رحاب السوق..وكما الألوان حين تختلط بكل تقوزحات أطيافها لتستحيل لونا أبيضا ناصعا موحدا رائعا ...تمازجت الأصوات والزعيق والكلام في الفضاء التي تجلله غلالة خفيفة من الغبار وصارت تصلني كأنها مغربلة ، ذهب عنى الإزعاج الذي أصابتني به ابتلعتني وأصبحت جزءا منها ،يحركنا النسيم فنتمايل ،ويصعد بنا الريح فنسمو، وتهبط النوتة فيسود الصمت لهنيهات قصيرة قد لا يعيرها اهتماما سوى من يحب الصمت ..كأنما في لحظة ما يصيب التعب كل الحناجز فتسكت لتلتقط أنفاسها فأتنفس الصعداء..ينفجر في وجهي على حين غرة حشد لم أدر من أين أتى ولا متى تجمهر ليزف السارق الذي مسكوه بالجرم المشهود في حفل انتقامي بغيض،على رأسه كيس من الجوخ يسيل من تحته دم غزير، وأيادٍ كثيرة وأرجلٍ وروسيات تنكل بجسده.. بدا لي من هلاميته كأن لا عظم به بقي سالما ، يتأرجح على السواعد التي تقتلعه من الأرض كخرقة بالية ..في العرف ، لا عدالة ولاقانون يحميانه ، يطاف بأمثاله في السوق ولا سلطة للمخزن عليهم حتي ينتهوا منه ، يركبونه أتانا بالمقلوب ويكشفون هويته المغطاة ،وإن قضى فلا أحد يؤخذ بجرمه..أتفادى الانجراف مع السيل الهائج واتنحّى جانبا..أضم حقيبتي إلى صدري وأحتمي بخيمة لم تكن سوى خيمة " الطبايبية" أشتم رائحة اللحم المشوى..لحم آدمي شاط ٍ، أنظرفي رعب إلى السفافيد التي تحمر تحت كير النافخ وإلى ركبة فيلٍ لامرأة تعض على خرقة رأسها ، فيما الكوّاي يخترقها بسيخ في حجم أصبعي ..تَهَوَّعَت ما في معدتي ودارت الدنيا بي..لم أدرك أن هذه الطريقة الوحشية المنهى عنها في المعالجة ومداواة أمراض عديدة ، كالرثية و أوجاع الرأس والمفاصل وانتفاخات البطن ما زالت تزاول ، فعلى قِدمها عندنا ظننتها انقرضت. .أمد يدي إلى حقيبتي "مجازيا" في الحقيقة هي مجرد كيس من الخيش الخشن خطته وزخرفته بنفسي ولا سوستّة له أو أزراز ليسهل علي حشر ما أشتريه فيه بسهولة ، بحثت عن هاتفي لأطلب من أحد ما أن يأتي ليأخذني فلم يعد في حيل للوقوف على رجلي لقد شارسَني هذا الفضاء المقيت اليوم وفتّ من صلابتي المعهودة..تلتقي يدي بشيء ليس لي ، تفوح منه رائحة زيت قديمة تزيد غثياني حدة ، محفظة منتفخة يلفها رباط بلاستكي ، عركتها الأيدي حتى لم يعد لونها الأصلي يتَكشَّف إلا من مكان الخياطة فيها ..تخيلت كم نقودا احتضنت وكم منها صُرفت والآن فُقدت.. ولا أعرف من أين جاءت فلم أتذكر أني وجدت شيئا أو التقطته..اقتعدت كرسيا صغيرا من الحلفاء في خيمة الطبيب "العرّوشي"كاللائي ينتظرن دورهن لأخْذ جرعة النار والكيّ وأراقب خارِزة عيني خشْكَريشة الجلد تتحول من الأحمر الى الكُهْبَة والدّهمة تحت حماوة الحديد وألعن الجهل والحماقة والسخافة المعششين في أدمغة الرعاع..أوليهم ظهري وأنسلخ عنهم وأبدأ التفكير فيما سأفعل بالمحفظة ، أفتحها..بها أوراق هوية وبعض حسابات بخط رديء ينبئ أن صاحبها بالكاد يفك الخط.. وما يعادل ثلاثمائة دولار بعملتنا ..استعدت انتباهي كأني تلقيت صفعة على قفاي، لما دعاني الشيخ وفي عينه نظرة غريبة لأكشف على مكان الضّر والمرض وهو يمسك بالسيخ يتفل عليه فيتصاعد البخار، يبسمل ويحوقل ويضع عليه أصبعه كأنه خرج من ثلج لا من تحت الجمر..أدفع شابة قرفصت بجابني لتأخذ مكاني ، وأظنه تلمظ اللحم قبل أن يراه ..لكنها أشارت إلى رأسها دون باقي جسدها، ارتسمت الخيبة على محياه المجعد كقطعة جلد شَزّتها شمس غشت ، شمثت فيه فلن يطبطب على ساق طرية ندية ولا على ذراع أعبل..وتسللت من الخيمة خفية ..لم أعد أسمع أصوات السوق فكأنني أصبت بالصمم ،تقاذفتني الهواجس وحرت في أمري،هذا المال ليس لي ولا أعرف صاحبه وربما هو في حاجة إليه وقوت عياله وقْفٌ عليه ..شيطاني يوسوس أنه رزق سيق لي لكن أريحيتي تغلبت على الطمع في.. قصدت بائع الأعشاب المُنفر ذاك ، وطلبت منه أن ينادي في ميكروفينه "من فقد شيئا يخصه فليتكرم بالمجئ عنده" جعل من ذلك ذريعة ليزكي نفسه وينوه بفعل المعروف وأن الدنيا ما زالت بخير..وانتظرت ..أسدلت نصف شالي على وجهي ولم يبق ظاهرا مني سوى العينين تحسبا..قدم الرجل الأول جفلت من سحنته يبدو كخريج سجون تخترق وجهه ضربة سكين من الصدغ حتى منبت الشارب ..أحسست أنني تورطت في شيء أكبر مني وأنني غبية خرقاء فلا أحد يجد محفظة ويبحث عمن فقدها ..طلبت منه أن يصف ما ضاع منه..تلعثم في الكلام والأوصاف لم تكن مطابقة البتة ،نظر إلي نظرة جمدت دمي في شراييني لما أومأت بالنفي ، ومضى ولا أظنه ابتعد وأجزم أنه سيترقبني ويترصدني..من تلاه رجل ستيني ، كتلة من العظم والعصب ، عيناه تدوران في محجريهما كالممسوس،أصاب في الوصف والمحفظة له لا شك في ذلك وإسمه مطابق للبطاقة ..لكن فاجأني ملوحا بيده في وجهي ، أن ما تحويه مقداره سبعمائة دووولار ورَسَّخ على المبلغ..أسقط في يدي وألجم لساني.. وفي لحظة تذكرت السارق ، وتخيلت الكيس على رأسي ودمي ينزف والركلات تنهال علي إن اتهمني بسرقة الفارق ، فأجبته ببرود مشرّب برقة مفتعلة : - آسفة عمي ..الأوصاف غير مطابقة ، عوَضك على الله.. صب على خلقتي جام غضبه قبل أن يختفي في زحمة الأكتاف والأرجل والدواب والعربات اليدوية ويلتقمه فم السوق الشره المشرع على المجهول. انتابني انذعارٌ روّعني ، يوجد مال على المحك وذو الندبة لن يتوانى عن مهاجمتي إن لم احترس ، رجوت العشاب أن يتابع النداء حتي أقضي مأربا وأعود ، و..سيارة الأجرة التي جعلت سائقها يلف بي المدينة طولا وعرضا ، خداعا وتمويها تضليليا..نقدته أجرته من رزق حرّمه الطّمع على صاحبه!
======================================
الدراسة النقدية
-------------
1_مقدمة : من خلال إبحاري في الكثير من نصوص القاصة مهدية أماني القصصية نقدا وقراءة خلصت إلى أنها ككتابة قصة قصيرة خرجت من معطف جوجول ، من حيث التزامها بالواقعية ، التي لا تخلو من لمستها الفنية الخاصة ، و من (أوكنر) تأخذ طبيعة شخوصه الذين ينحدرون غالبا من الطبقات المأزومة ، والمضطهدة ، وفي أغلب الأحيان الخارجة عن القانون أي من طبقة الحرافيش بلغة عميد السرد العربي نجيب محفوظ، ولكنها تظل بعيدة عن غرائبية ورمزية( ادكار الان بو ) وسيتضح لنا ذلك من خلال دراستنا لنص ( سعار القلوب ) حتى لا أسقط في احكام قيمية قد لا تنصف الكاتبة والمكتوب .
2-الإثارة والاستمالة : إن فن القص والسرد في التفكير الإنساني لا يستغني أبدا عن أسباب إثارة المتلقي واستمالته للإقبال على المتن المقدم له ، و خلق نوع من الألفة بينه و بين النص من خلال مؤثرات تكاد تكون متواترة منذ القديم ، و من شأنها خلق نوع من التساؤل في نفسيته ،للإبحار في مستغلقاته والتمتع بأحداثه ، ومن ذلك قولنا ( كان يا ماكان ٠٠٠٠ أو٠٠٠٠ في قديم الزمان وسالف العصر والأوان٠٠٠٠حتى كان ٠٠٠٠) وغيرها من المغريات السردية والقصة القصيرة لا تقل أهمية عن الفنون السردية ومن مغرياتها :
* العنوان : وهو على مستويين :

ا-( سُعار القلوب ) على مستوى التركيب النحوي جملة إسمية بسيطة ، تعتمد على مبتدأ مضمر نقدره بإسم الإشارة (هذا) ، وخبر ( سعار ) مصدر مضاف إلى فاعله على سبيل التعريف والتخصيص و الجملة لم تخرج عن التركيب غير المألوف الذي نصطدم به من حين لآخر في بعض النصوص الإبداعية قصة كانت أو شعرا !
ب- على مستوى الانزياح وجماليات التركيب فإن القاصة برعت في جمع ما لا يجمع وألفت بين المؤتلف والمختلف ، وأصلحت ذات البين بين( سعار /و/ قلوب) لتستمدالكلمة الأولى جمالها من الثانية وتعضد الثانية الأولى فتحصل مزية الكلمتين وتتحقق فضيلتهما وذلك من أجل خلق الصورة الأشبه بالصورة الشعرية فهي لا تقل عنها أهمية ولعل هذه الطريقة في إنجاز العنوان ، تستميل القارىء وتشده إلى صلب النص ، ريح تدفع شراعه للإبحار في هذا البحر بلا شطآن ، وتهيئه لممارسة فن استغوار متاهات النص ،وخلق نوع من التآلف بين العنصرين الأساسيين النص والمتلقي الذي احتفت به نظرية التلقي من (ياوس) إلى( إيزر ) ،وذلك من خلال إستثارة ذائقته القرائية ، وأعتقد أن القاصة مهدية نجحت في اختيار العنوان باعتباره العتبة الرئيسة التي تسمح بالاختراق والعبور إلى مجاهل النص والانغماس في صراع أبطاله !

3-الرؤية : إن واقع البيئة المغربية ، بكل تناقضاته وصراعاته كوّن في نفسية القاصة رؤية فلسفية خاصة أصبحت بمتابة مرجعية لها في جل نصوصها القصصية ، وتتجلى هذه الرؤية في (سعار القلوب ) في مجمل الأحداث المختلفة التي تكون نسيج النص من أول حدث إلى نهاية القصة ، بدء من ( ولوج السوق ***إلى العشاب ***إلى الطبابيبي ****إلى تورط اللص ****إلى تورط الساردة في مشكل محفظة لا تدري عنها شيئا ***** وهكذا ) هذه الأحداث ستحدد موقف الكاتبة الفلسفي من بؤرة الصراع في مختلف طبقات المجتمع المغربي كما الإسقاط الذي لا يكاد يخلو منه أي من نصوصها ويجد له حيزا فيه..تجلى في تعاطفها مع السارق المقتص منه..في جملة واخزة "كأن لا أحد غيره يسرق في بلداننا العتيدة"..و كيف التقطت الموقف وامتطته لتمرير رسالة سياسية. !
4-الموضوع : موضوع النص مجموعة من الأحداث التي يطبعها صراع الشخوص ومهما تعددت هذه الأحداث فإنها لم تفتقر إلى الرابط الموضوعي الذي يجمعها في وحدة عضوية تشكل تيمة النص ( الأمية والجهل مرتع للدجل والممارسات الخاطئة، والجشع ، والخوف ): في مجتمع ما زال بعض أطيافه يرزحون تحت نير العادات والتقاليد البالية ، التي يطبعها الجهل ويطغى عليها طابع الأمية ، والسوق يعتبر المكان الملائم لتفريخ تلك الأنشطة الخاطئة التي تحكمها الغيبيات وقصر التفكير ، فالعشاب ، يمتص جيوب البسطاء لأنه يمسكهم من اليد التي توجعهم وذلك من خلال ، العزف على وثر ذكورتهم ورجولتهم ،التي تمجد مع كل كلمة أيروتيكية تخرج من فم هذا العشاب الذكي والدجال الذي تمقته الساردة و يعرف من أين تؤكل كتف هؤلاء البسطاء وقس على ذلك بالنسبة لذلك "الطبايبي" الذي يمارس التداوي بالكي والنار ،في هذا المجتمع الذي يسيطر فيه التفكير الخرافي ، وتنعدم فيه المعايير العلمية ، ولا يمكن أن نستثني هذه الحشود من المتسوقين في النص والتي تخرج عن قانون الحكومة وتمارس قانونها الخاص ،كما تمارس التمرد والعمل بالأعراف والتقاليد القديمة ويتجلى ذلك من خلال ،تعمدها أخذ حقها بيدها و تطبيق مبدأ القصاص من ذلك اللص الذي سيخضع للمحاكمة الجماعية العشوائية ،إذ يضيع دمه بين هذه الجموع ، فيبرأ هذا بجرم ذاك ، ويمكن أن نشير إلى أن موضوع القصة هو الذي تعطاه الأهمية الكبرى فهو مفصل إلى أحداث تنمو باختلاف نمو أبطالها لكنها تكون خاضعة لرابط منطقي في النص هو الذي سيكون مادة السرد في القصة !
5- اللغة : تعتبر اللغة وعاء الحكي وسيلة نقل الأحداث إلى المتلقي .وسردها لهذا فإنها ديدن نجاح المبدع في عملية الكتابة ، عندما نقرأ نص( سُعار القلوب) نجد أن القاصة مهدية توظف لغة متميزة فهي ليست سهلة حد أو مباشرة وصفية وليست منزاحة حد ذلك الغموض الذي يحول دون ترتيب الألفاظ التي تحصل من خلالها الدلالة ، ويمكن أن نقف عن بعض خصائص اللغة في نص القاصة من خلال مايلي : **الدقة : إن القاصة مهدية تركز في لغة النص على الدقة في اختيار الكلمات التي تؤدي المعنى الذي تقتضيه طبيعة مختلف الوضعيات في أحداث النص ولكنها من حين لآخر توظف بعض الكلمات التي تخلق مشكلا للقارئ البسيط من حيث الفهم ( العُنة /المنقوفة /انعقاف /ذو الحَيّد ..وربما تكون دعوة للعودة إلى الاهتمام بلغتنا الرائعة والبحث عن جمالياتها وإحياء ما انتسى منها..) أما الجمل فإنها تخلو تماما من تلك الشوائب والأخطاء التي يمكن أن تشتت انتباه القارىء ، وتدفعه إلى التأمل المتكلف والمبالغ فيه ، وإن كانت أغلب هذه الجمل تتسم بالطول بعض الشيء لكنه يخدم بشكل أو بآخر بناءالنص ، تقول : (اقتعدت كرسيا صغيرا من الحلفاء في خيمة العروشي) ! وتقول : (استعدت انتباهي كأني تلقيت صفعة على قفاي ) أو قولها : (لما دعاني الشيخ وفي عينه نظرة غريبة ) تظهر هذه الجمل البسيطة أن المبدعة تعطي لغة السرد كل اهتمامها ،كوريقات الزهور تشذبها ، وتخلصها مما يمكن أن يعلق بها من شوائب وإضافات لا تخدم السرد وزوائد تضر النص ، هذه الخاصية-المزيج بين المثانة والبساطة والسهولة الممتنعة القصية والعصية والمستعصية عن المباشرة ، تطبع جميع نصوص الأديبة ، وما( سعار القلوب ) إلا واحدا من مجموع نصوصها المتميزة ! **التكثيف :هناك من يربط عملية التكثيف في القصة القصيرة بالانزياح وبلاغة الغموض ، لكن أعتقد أن التكثيف كتقنية فنية ..قتَارة في الكلمات وملاءَة في المعنى والدلالة كما نلاحظه في قصة (سعار القلوب) ، اذ ليس هناك مجال أو متسع للإضافات والزوائد ، والحشو أو الأوصاف التي لا تخدم السرد أو تخلق تشويشا على القصة ، لان القاصة مدركة أنها ستدير كل هذا العالم المليء بالمتناقضات على اختلاف أنواعها في هذه المساحة الضيقة والتي تحتاج فيها لتقريب زواياها إلى كاميرا ثلاثية الأبعاد ،هذا العامل يجعل القاصة تهتم بالجملة السردية كما لو كانت تكتب شعرا ، إذ تقتصد في تلك الواوات أو الروابط المجانية ، وهذا يجعل لغة السرد متكاملة ، في سلامة نحوٍ ودقة وتكثيفٍ.. وننتشي بتجربة إنسانية الرائعة وسرد متقن بديع يعلق بالأذهان.! 6- الشخوص : هم في هذا النص (سعار القلوب ) يكادون يتساوون في الأحداث التي يقومون بها وإن اختلفت بعض الشيء من شخصية إلى أخرى ، وأيضا من حيث اهتمام الساردة بالشخصية وطريقة تقديمها الى المتلقي ،فمثلا يختلف تقديم شخصية العشاب الماكر الذي تمقته ويغضبها عدم احتشامه وتتمنى لو تصفعه لأنه يدفعها إلى التعبير عن رأيها فيه ويخرجها من حيادها كما سنرى ،ويختلف عن شخصية الطبايبي الذي يمارس شواء اللحم البشري بالكي والذي يثير فيها الامتعاض والتقزز ، وهذا أيضا لا يقل أهمية في إثارة الساردة عن الشخصية الأولى ، وعن شخصية الجماعة التي تعاقب اللص ، إضافة إلى تلك الشخوص التي ساهمت بشكل أو بآخر في تنمية الأحداث ،والتي دفعت الساردة إلى الاعتراف بسذاجتها لأنها وجدت المحفظة وقررت إعادتها إلى صاحبها وهذا بطبيعة الحال سيخلق لها الكثير من المتاعب ويجبرها على إيجاد مخرج لا يشرفها كإنسانة حفاظا على سلامتها .. على كل حال هذه الشخوص ،كلها لا تقل أهمية عن شخوص اوكنر القصصية أو حرافيش نجيب محفوظ...وقد يكون "الشخص" الرئيسي المهيمن والمستوعب لكل هذه الشخصيات هو "المكان" السوق.
7- السرد :إن اللغة بؤرة يلتقي فيها الملقي والمتلقي وهي القاسم المشترك بينهما فمن خلالها يفهم بعضهما الآخر ، وتتم عملية تفجير الأحداث داخل النص وليس نقلها إلى المتلقي على علاتها ،فمن خلال النص ، تتبين الرؤية الخاصة للقاصة للعالم والمجتمع ، ولإنجاز هذه المهمة أي السرد ، نلاحظ ان القاصة ، ركزت على ساردة ، تكاد تكون متطابقة مع المؤلف (ساردة/مؤلف/بطلة) ،ويرجع هذا إلى اعتمادها على ضمير المتكلم ، هذا الضمير الذي يخلق في كثير من الاحيان بعض الالتباس للقراء بين السيرة الذاتية والقصة ، ويحبذ أغلب النقاد توظيف ضمير الغائب للتفريق بين الكاتب والسارد ، لكن في نص ( سعار القلوب ) نلاحظ ان أدوار الساردة تتعدد وتتنوع ، فهي تقوم بدور شخصية في النص إلى جانب توزيعها للأدوار بين باقي الشخوص الأخرى سواء كانت مهمة أو ثانوية ، فهناك علاقة تماه بين الساردة والمؤلفة وهذا التماهي يجعلنا نرى الساردة هي صوت المؤلفة إذ تحضر الساردة بقوة في النص ولا يتسم دورها بالحياد فلا تكتفي بنقل الأحداث ، وإنما تحلل وتعلق على شخصيات النص وتبدي رأيها في أفعالهم ،(أصم أذني عن تفاهاته ......أتفّ ..... ) فهي إذن لا تشارك كساردة خارج لعبة الصراع ، وإنما تعتبر فاعلة أساسية فيه ، لأنها تضفي رؤيتها على الأحداث وتشارك في خلقها..أو تنهال عليها وترغمها على الانغماس فيها... !
8-الزمان والمكان : هما عناصران أساسيان في القصة القصيرة وفي تكوينها على مستوى البناء ، وإن كانت تحرم المفاضلة بين عناصرها كلها ،أجابت القاصة عن سؤالين عريضين يتعلقان بالمكان والزمان باعتبارهما يؤثتان لإدارة عالم متكامل من الصراع والتناقض ، أين وقعت أحداث قصة سعار القلوب ؟! ومتى وقعت هذه الاحداث؟ حددت القاصة هذا المكان من بداية قصتها في السوق الأسبوعي ، ولنتصور ما يترتب عن هذا المكان من تفاعلات مختلفة لشخوص من نوع خاص تختلف خلفياتهم وتتعدد مشاربهم ، فللمكان علاقة بنوعية الأبطال الذين يتحركون فيه فلا يعقل ان يتحرك مثل العشاب والطبايبي واللص وغيرهم من هاته النوعيات في ناطحات السحاب او الأبراج فالمكان يختار الشخوص والاحداث ويكون ذلك في انسجام و تناغم تامين ! أما زمن القصة ، فأيضا حددته القاصة من بداية النص والتزمت بوحدته،وأجابت عن السؤال : متى وقعت هذه الأحداث ؟! عندما تحتد الحركة ويشتعل لهيبها في السوق تحمل الساردة كاميرا ثلاثية الأبعاد فتنقل لنا هذه حركية هؤلاء الأبطال ، والزمن ندركه بعقولنا ولا تدركه حواسنا ولكن آثاره تكون واضحة في نسيج وبناء القصة ، المكان والزمان يكمل أحدهما الآخر في انسجام تام ، باعتبارهما يؤثثان للحركية الشخوصية في النص !
9-الخاتمة : نستنج من قراءتنا لهذه القصة (سعار القلوب ) للقاصة مهدية ، متحها وغوصها في واقع البيئة المغربية ، وتفجير أحداثها من الداخل ، وإن اتسم اسلوبها بالسهولة الممتنعة ، فلأنها تطبعه بطابعها الفني ، والجمالي اذ تبتعد عن اللغة المباشرة ، وعن النمطية ،مزيدا من التألق الإبداعي!

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أستاذي صالح هشام ..أقف عاجزة عن التعبير بعد كل ما سطرت أناملك هنا أيها الرائع مفعم حسّك بالعمق ونقدك وتحليلك بالموضوعية والجمالية التناولية ...شكرا لروعة ما كتبت عن قصتي المتواضعة، وما اسبلت على دلالاتها من سامغ قلمك وما فجرت من معاني في كليماتها، بكل حرفية وتمكن وتجرد وهذا ليس بالغريب عنك أيها المبدع فقليل ما يلتقي في شخص واحد كاتب وناقد وحضرتك حظيت بالحسنين ، غمرتني بوارف كرمك و رفيع ثناءك .. جلّ تقديري وعطر تحياتي قد أوفيك بعض من حقك والشكر مستحقك بالدعاء لك ان يحفظك الله لنا و يبارك في عمرك و يمتعك بالصحة و العافية ونظل ننهل من علمك و نتقدم بدعمك الجميل، تغاريد احترامي و شتائل وردي أستاذي الفاضل ...والمودة

    ردحذف