السبت، 11 يونيو 2016

خاطرة ((الحبُّ والحربُ والسَّلامُ)) للشاعر السوري الرائع الأستاذ / معروف بركات العتيبي ..... القراءة النّقديّة للشاعرة الرائعة الأستاذة / أسمهان الفالح




الديوان ملتقى الأدباء ( مسابقة ملك النقد )
=======================
دراسة نقدية : بقلم الأستاذة أسمهان الفالح / تونس
((الحبُّ والحربُ والسَّلامُ)) للشاعر معروف بركات / سوريا
--------------------------------------------------------
النصّ:
-----
الخاطرة
--------
((الحبُّ والحربُ والسَّلامُ))
---------------------------
يا عاذلي في حبِّي ، قلبي أسيرُها بينَ نارِ الشَّوقِ ، ونارِ الغيابِ
هي العمرُ والجمرُ والخمرُ والقصيدةُ والسَّحابُ ، وأنا أرضٌ يبابُ
بستانُ الأملِ ، وأهزوجةُ المساءِ ، هي الوطنُ الغارقُ في الدِّماءِ
الغمامُ مُثقلٌ بالعتابِ ، وأنا كشجرةٍ يانعةٍ محمَّلةٍ بالثِّمارِ ، أرنو للسَّلامِ
أصرخُ وأنادي ، منْ أقصاكَ يا وطني ومنْ أقصاني
منْ ينشرُ الفرحَ ، ويفتحُ للحبِّ مزاداً ؛ ليثأرَ التَّداني من التَّنائي
ونحفرُ في صفحاتِ التَّاريخِ ، أنا وأنتَ ، كلانا إخوةٌ في الوطنِ
فليتكاثرْ نَسلُ الحبِّ بالنُّورِ والضِّياءِ
حمائمُ السَّلامِ تعانقُ السَّماءَ ، السَّماءُ لنا ، والأرضُ لنا ، والليلُ في اِندحارِ
الشَّمسُ اِشراقٌ ، والحقولُ بيادرُ قمحٍ ، والحبُّ خيرُ راقٍ ، لرتقِ الجراحِ
الحربُ قصورٌ منْ رمالٍ ونارٍ ، والحب قصور حياةٍ من أشجارٍ وأزهارِ
اكتبْ يا قلمي ، هذا أخي في الوطنِ ، بالإخاءِ نرفعُ العلمَ على هاماتِ القِممِ
تعالَ ننادي في المآذنِ ، ماتتِ الحربُ ، والسَّلامُ باتَ على الأبوابِ
وأنّ القتلَ والتَّدميرَ والظُّلمَ والتَّهجيرَ ، رحلوا منذُ أزمانِ
تعالَ نزرعُ ياسمينةً دمشقيَّةً ، لكلِّ شهيدٍ حتَّى وإنْ كانَ مجهولَ الهويّةِ
تعالَ نتحرَّرُ من السجَّانِ ، فالحريةُ عنواني ، وتحلو الحياةُ بلقاءِ الأحبابِ
مزنُ السَّلامِ تلمُّ شعثَ الشّتاتَ ، أمطري يا سمائي ، أمطري وداوي جراحي.
=================================
القراءة النّقديّة:
_________
الواقعيّ و المتخيّل في نصّ "الحبّ و الحرب و السّلام" للكاتب معروف بركات/ سوريا بقلم أسمهان الفالح/ تونس ____________________________________________
"تكتسب بدايات الكلام أهميّتها بوصفها اِنحرافا عن صمت أو فراغ، و تُعدُّ هذه البدايات تأسيسا لمتوالية من المعاني التّي تعلن في اِكتمالها الأخير ولادة نظام ما." لذا جاءت خاطرة "الحبّ و الحرب و السّلام" و هي تعكس هذا الدّفق من الأحاسيس المتوهّجة لدى الكاتب الذّي أورد النصّ في شكل نواة مكثّفة مشحونة بالمعاني و محفّزة على الشّرح فالتّحليل فالتّأويل. أليس لأنّ النصّ قد صُدِّرَ باستهلال غزليّ يحيلنا إلى المطالع الطلليّة في القصيدة الكلاسيكيّة التّي عُرفتْ بالحرص على حسن الابتداء."و هو أن نجعل أوّل الكلام رقيقا سهلا و أوضح المعاني مستقلاّ عمّا بعده مناسبا للمقام، بحيث يجذب السّامع إلى الإصغاء بكليّته لأنّه أوّل ما يقرع السّمع و به يُعرفُ ممّا عنده." ضِفْ إلى ذلك ما يُلمِحُ له هذا الابتداء من معانٍ ضمنيّةٍ مبطّنة داخل النّسيج النصّي لا تُسلِمُ نفسها بيسر من القراءة الأولى، و إنّما تتطلّب وقفة متأنيّة و تحليلا عميقا، و تقصّيا لسياقات النّص المتشابكة المترابطة. و قد تأسّس القسم الاستهلاليّ في النصّ أسلوبا على النّداء: "يا عاذلي في حبّي، قلبي أسيرها بين نار الشّوق و نار العذاب...". و هو سنّة جارية في القول الشّعريّ كما هي حال المقدّمة الطلليّة و فواتح الخطب و الرّسائل. "و يؤثره المخاطِبُ عادة لأسباب اِتّصاليّة بدرجة أولى لذلك يظهر في العادات الكلاميّة موصولا بالتّنبيه أو الإثارة أو جلب الانتباه من ناحية التّنغيم." و يتشكّل النّداء في المتن "المعروفيّ" من عدّة أطراف أوّلها المُنادِي و هو المتكلّم، و قد تشكّلت صورته من خلال تواتر الأفعال الواردة في صيغة المضارع المرفوع و المسندة إلى ضمير (الأنا) من قبيل قوله: "أصرخ/ أنادي/ أكتب..." و هي أفعال تتسّم ببعدها الحركيّ التّجسيديّ، إذ تعمّق الإحساس بالحالة التّي يعيشها المتكلّم و تكثّف الشّعور بها. هو صخبٌ مدوّ يتعالى في أعماق الذّات الشّاعرة و يهزّ كيانها هزّا، فيضيف الشّتاتَ إلى الشّتاتِ، ذاكَ الذّي يتجسّدُ في ثنايا القصيدة و يتدعّم من خلال توظيف مركّبات إضافيّة متعدّدة: (عاذلي، حبّي، قلبي، وطني..) تحيل على المنادي في المقطع 1 من النصّ، و قد ورد موصوفا (عاذلي) يقول ابن حزم في "طوق الحمامة" معرّفا العاذل: "و للحبّ آفات، فأوّلها العاذل، و العذّال أقسام فأصلهم صديق قد أسقِطتْ مؤونة التّحفّظ بينكَ و بينه فعذْلُهُ أفضل من كثير المساعدات. وهي الحظّ و النّهي، و في ذلك زاجرٌ للنّفس عجيبٌ و تقوية لطيفة لها عرض و عمل و دواء تشتدّ عليه الشّهوة. ثمّ عاذل زاجرٌ لا يفيق أبدا من الملامة و ذلك خطب شديد و عبء ثقيل." و يربط الكاتب بين طرفيْ النّداء بأداة نداء للقريب (يا) لتكشف عن حميميّة العلاقة التّي تجمعه بالعاذل فلا غرابة إذّاك أن يستنكر لومه إيّاه على فرط عشقه و صبابته لمحبوبةٍ بدتْ منذ الوهلة الأولى كائنا زئبقيّا تصعب الإحاطة بصفاته لتميّزه من سائر الأنام. و لعلّ في ذلك ما يبرّر اِغتراف كاتبنا غير قليل من بحر البديع و البيان، لا ليبرزَ سعة مخزونه اللّغويّ و الثّقافي، و إنّما في محاولة منه لإضفاء هالة من القدسيّة على هذا الموضوف العجيب و قدرته الهائلة على تحويل الأشياء من السّالب إلى الموجب. و لم يكن ذلك ليتسنّى له بيسر لولا عَقْدِهِ مقابلة بين ضميريْ (أنا/ الكاتب) (هي/ الحبيبة ). فالمخاطَبَةُ قد جمعتْ في ذات البوتقة كلّ معاني الحياة و الكينونة. فهي "العمر و الجمر و الخمر و القصيدة و السّحاب و بستان الأمل و أهزوجة المساء". و هل أروع من هذا التّصوير الرّمزيّ الذّي اِتّكأ على الجناس غير التامّ بين(العمر/ الجمر/ الخمر)، و بين (السّحاب/ اليباب)، و على الطّباق بين (الجمر/ الخمر، السّحاب/ اليباب). فعزف لنا مقطوعة التّيه الكونيّ الأبديّ و الحبّ الخالد الذّي يُجنّحُ بنا من واقع جدبٍ إلى خيال خصبٍ مترامي الأطراف إلى ما لانهاية. و في غمرة هذا التّصعيد النفسيّ و الاحتفاء بالاخر و شكوى هجره و صدّه، تحدث عمليّة اِلتفاف على الجملة تؤدّي إلى اِنزياح هامّ في مستوى الدّلالة؛ فالحبيبة التّي طالعتنا متوهّجة وضّاءة في برهة 1 من الخطاب ما تلبث أن تتراءى لنا سابحة في دمائها ، مثقلة بالعذاب. و ما أقساها صدمة على المتلقّي حين تُميطُ الموصوفة اللّثام عن وجهها بالكامل، فنكتشف أنّ المتحدّث عنها إن هي إلاّالوطن المسبيّ الذّي تفنّن الغزاة في تشويه ملامحه: "هي الوطن الغارق في دمائه..." و غارقٌ اِسم فاعل مشتقّ من الفعل "غرق" يبرز اِستمراريّة وقوع الحدث أمام الصّمت المدقع من قبل الأطراف المسؤولة عن تواصل النّزاع و الاقتتال غير المنصف في أراضينا العربيّة الأبيّة. فالشّاعر يتلاعب بدلالة الحروف و الكلمات و ينسج شبكة علائقيّة معقّدة بين جمل النصّ ليخاتل القارئ و يباغته في كلّ مرّة بعكس ما كان يتوقّعه: فبحر الدّم الذّي يطفو على السّطح، و نيران العذاب التّي أثقلت الغمام، لم تنجح في إخماد جذوة الطّائر المحارب الذّي أنهكته جراحاته، بل نراه يُبعَث من رمادٍ إثر كلّ سقوط. فهاهو ذا ينادي بالاستناد إلى أسلوب إنشائيّ طلبيّ قائم على الأمر(ليتكاثر/ ليثأر/ اكتبْ/ تعال/ أمطري...) بالسّلام و ينشد التّآخي و الوئام. يقول معروف بركات: "أنا كشجرة يانعة محمّلة بالثّمار أرنو إلى السّلام". و من الدّلالات الحافّة بهذا العنصر الطبيعيّ الرّمز(الشّجرة): الأصالة، الجذور، الانتماء، الهويّة، اليمن و البركة..أمّا الثّمار فتشير إلى المعرفة و العلم. فالكاتب واعٍ بمسؤوليّته كمثقّف يمثّل أبناء جيله، بضرورة حمل لواء السّلام و نشر المحبّة و الألفة في كلّ أرجاء البسيطة رغم ما يحاصره من بؤر الظّلم و الظّلام و الضّلالة و التّيه. لذلك نلحظ حضورا طاغيا للرّمز بشتّى صوره المجازيّة و الايحائيّة هدف تعميق الدّلالة النصيّة و تجسيدا لجماليّات التّشكيل الشّعريّ؛ فتوظيف "الحمائم" في المقطع 2 من النصّ كان رمزا للسّلام المفقود في الوطن و في نفس المتكلّم، هو حلم يراود كلّ من اغتُصبتْ أرضه قسْر إرادته ففقد الإحساس بالانتماء و الأمان ، هذا السّلام المتأرجح بين السّماء و الأرض يبقى مطلبا مشروعا و حلما دفينا لا جدوى من قبره في الزّوايا المظلمة فينا. أمّا "السّحاب و المطر" و يقابلهما "اليباب" فيجسّدان رمز الخصوبة و البعث و الحياة التّي تقتات من وجعنا و تتّخذ من دمائنا قرابينا لينبت من رحم الموت غصن طريّ. و كذا الأمر بالنّسبة إلى "الياسمين الدّمشقي و الحقول و بيادر القمح و الأزهار" فكلّها تنبئ بغد جديد محمّل بالبشر و النّماء و التّحليق بعنفوان في سماء الحريّة دونما قيد يكبّلنا و يكبح جماحنا. لذلك تكرّر لفظ "السّماء" مرّات عدّة في النصّ يعضده لفظ " الأرض" حيث الامتداد و الشّساعة رغم الحصار المضني. فإذا ما تكاتفت الجهود في سبيل تحقيق الهدف، فمآل الليّل إلى "الاندحار"، و مصير الظّلم الزّوال. نستشفّ ممّا تقدّم أنّ علاقة الكاتب بالطّبيعة جوهرها التّفاعل و الانسجام" فهي اِمتداد لكيانه إذ تتغذّى من تجربته." فالشّاعر إذ يستمدّ رموزه من الطّبيعة "يخلع عليها من عواطفه و يصبغ عليها من ذاته ما يجعلها تنفث إشعاعات و تموّجات تضجّ بالايحاءات فتصبح الكلمات الشفّافة القريبة المعنى مكثّفة و محمّلة بالدّلالات." إنّ نصّ "الحبّ و الحرب و السّلام" كان صرخة في وجه كلّ صامت عن الحقّ، و دعوة إلى مناصرة الشّعوب المضطهدة في الأرض، و ردّ الضّيم عنها بأيّ شكل من الأشكال. لذلك توزّع الخطاب بين ضمائر التكلّم "أنا"، و الغيبة "هي"، و الخطاب "أنتَ". فكان الأيقاع جنائزيّا حزينا في طور أوّل يمكن تسميته بالطّور الوصفي التّسجيليّ، ثمّ اِحتفاليّا صاخبا في طور ثانٍ تأسّس على الدّعوة إلى السّلام و الإخاء. فالنصّ لوحة فنيّة فريدة تجسّد رؤية واعية لواقع مأسوي تراجيدي لنا أن نحوّله بالعزم و الإرادة التّي لا يفلّها الصّخر إلى جنّة نرفل في نعيمها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق